أزمة الجنوب السوداني
الخلفية والتطورات
العلاقة بين شمال السودان وجنوبه ينبغى أن ننظر إليها فى أبعادها الجغرافية التاريخية والعرقية والثقافية والسياسية، إذا كنا نريد لها حلاً دائماً فى إطار الدولة السودانية الواحدة. أى أن معالجة لا تستهدف كل تلك الأبعاد مجتمعة لن تقود إلى أى مردود إيجابى ولن تقدم سوى مسكن للألم أو علاجاً للأعراض لا يلبث أن يزول مفعوله وينفجر الوضع من جديد.
وعلاقة الشمال بالجنوب فى إطار الدولة الواحدة تطور حديث لا يتجاوز عمره المائة والخمسين عاماً، ترجع بداياته إلى عهد محمد على باشا فى السودان، إذ أنه بعد أن غزا المملكة السنارية عام 1821م بحدودها الضيقة المرتكزة على وسط السودان النيلى، استقر حكمه فى وسط السودان. ولم يكن الجنوب جزءاً من الدولة السنارية، وما كانت دارفور جزءاً منها بل كانت مملكة مستقلة، وكانت كردفان تراوح بين تبعية لدارفور وتبعية لسنار وما كانت (التاكا) – مديرية كسلا الحالية – جزءاً منها، ولكن التوسع الذى ابتدره محمد على حدث رويداً رويداً وبلغ ذروته بعد خمسين عاما من احتلال محمد على للسودان، إذ ضم له مديريتى فاشودة (أعالى النيل) والاستوائية عام 1870م ثم دارفور بعد ذلك، ولكن بعد خمسة عشر عاماً من تمدد حكمه للجنوب اندلعت ثورة المهدية وانسحبت جيوش محمد على من السودان وزحفت جيوش المهدى للجنوب وانسحب أمامها أمين باشا آخر الحكام الأجانب الذين عينهم خديوى مصر لإدارة جنوب السودان.
بقى من نصيب الحكم الثنائى الذى غزا السودان مع نهاية القرن أن يعيد ترسيم حدود السودان بشكلها الحالى، ومن هذا يتضح أن العلاقة بين الشمال والجنوب على المستوى الإدارى والدستورى لم تتضح معالمها بصورة قاطعة إلا بعد الحكم الثنائى إسما البريطانى واقعا – وحتى هذه الإدارة لم تستطع أن تبسط سيطرتها الكاملة على الجنوب إلا عام 1930م بعد أن هزمت آخر قوات المقاومة القبلية الجنوبية. وطوال هذه الفترة كان التفاعل بين الشمال والجنوب محدودا والاتصال قاصراً على لقاءات القبائل المتجاورة – بل إن التواصل بين قبائل الجنوب نفسه كان محدوداً، ولابد من أن نستصحب هذا البعد التاريخى لقضية الجنوب، وهو يشابه الواقع فى العديد من الدول الأفريقية التى رسمت حدودها الحالية فى القرن التاسع عشر خلال الهجمة الاستعمارية على القارة والتى أدخلت ضمن حدود الدول القومية المستحدثة ممالك محلية قديمة وقبائل مختلفة ومجموعات إثنية متنوعة. هذه السمة التاريخية للدولة الأفريقية لم تكن غائبة عن أذهان القيادات الأفريقية بعد الاستقلال، ولذلك جاء فى مقدمة قرارات منظمة الوحدة الأفريقية عند نشأتها التمسك بقدسية الحدود الموروثة حتى لا تتعرض القارة (للبلقنة)، إذا ما استجابت لنوازع التفتت على أساس عرقى أو قبلى.
غير أن هذه القرارات التى اتخذتها المنظمة حفاظاً على وحدة الدول لا تنفى واقع التنوع وما يصحبه من توتر، وما لم تتوفر الآليات القادرة على الاعتراف بالتنوع واحترامه والساعية فى ذات الوقت إلى صهر هذا التنوع فى القومية الأشمل فى مساواة تامة، فإن ذلك التوتر يبقى مرشحاً للانفجار فى صراعات وحروب أهلية وهو ما تشهده اليوم الكثير من دول القارة – بل قد يقود الصراع أحياناً إلى انهيار الدولة تماماً كما حدث فى الصومال.
والسودان الذى يذخر بهذا التنوع وهذا التوتر قاسى – أيضاً – من ظروف داخلية إبان الفترة الاستعمارية ضاعفت من حدة الانقسام، ذلك لأن الإدارة البريطانية انتهجت سياسة مدروسة لزيادة الفجوة بين الشمال والجنوب حينما انطلقت من قاعدة ثابتة مؤداها أن الشمال شمال والجنوب جنوب، وهما لا يلتقيان فبنت استراتيجيتها على أساس أن الشمال المستعرب هو جزء من العالم الغربى والشرق الأوسط وأن الجنوب أفريقى زنجى مستقبله أكثر ارتباطاً بأفريقيا جنوب الصحراء وهو الأقرب إلى المستعمرات البريطانية فى شرق أفريقيا، ومن ثم فهى قد سنت عام 1922م (قانون المناطق المقفولة) الذى جعل من العسير التواصل بين الشمال والجنوب، وقيد حركة الشماليين جنوباً والجنوبيين شمالاً وعرقل بصورة واضحة حركة الاندماج القومى ومنع انتشار اللغة العربية فى الجنوب وركز على اللغة الانجليزية وترك التعليم بأكمله فى أيدى الإرساليات التبشيرية المسيحية – فكان لذلك كله أثره فى زيادة الهوة بين الشمال والجنوب، غير أن التطورات الدولية فى أعقاب الحرب العالمية فرضت تعديلاً على هذه السياسة عام 1946م وتوالت التعديلات حتى مؤتمر جوبا عام 1947م الذى اعترف للمرة الأولى بوحدة السودان شماله وجنوبه رغم المعارضة القوية من الإداريين البريطانيين الذين ظلوا يعارضون ذلك.
كان أول ثمار السياسة الجديدة المعترفة بوحدة السودان وصول أول فوج من الطلاب الجنوبيين للالتحاق بكلية غردون التى ظلت قائمة منذ عام 1902م دون أن يلجها طالب جنوبى واحد،ووصل أول فوج من الساسة الجنوبيين للمشاركة فى الجمعية التشريعية التى أنشأها البريطانيون فى الخرطوم بعد أن كانت عضوية الجهاز التشريعى السابق (المجلس الاستشارى) قاصرة على الشمال وحده – فكان ذلك أول لقاء سياسى بين الشمال والجنوب – وإذا تذكرنا أن الاتفاقية المصرية البريطانية التى وضعت السودان على طريق الاستقلال قد وقعت فى الثانى عشر من فبراير عام 1953م، لأدركنا أن العلاقة السياسية والثقافية بين الشمال والجنوب على الإطار الرسمى لم تبدأ إلا قبل خمس سنوات من اتفاقية إنهاء الحكم الثنائى، ولذلك لم يكن لها أثر يذكر فى تجسير الهوة المتسعة.
لا نريد أن نعلق على شماعة الاستعمار كامل أزمة العلاقة بين الشمال والجنوب، ولكن من المهم الوقوف عند هذه الخلفية التاريخية التى تحكمت فى الصراع وضاعفت من آثار التنوع العرقى والدينى والثقافى الموروث.
لقد تحملت الحركة السياسية الشمالية عبء النضال من أجل التحرير، وكانت تستبطن مصلحة الجنوب دون مشاركة منه، وتنادى شعاراتها بتطويره وتقدمه وتسعى جاهدة حتى قبل الاستقلال لإدخال نظام تعليمى موحداً يسهم فى صهر التنوع الذى يعج به السودان فى بوتقة القومية السودانية، على أننا لابد أن نعترف بأن التوجه العام للحركة الوطنية كان عروبياً، وأن أنظار الحركة الوطنية كانت مشدودة شمالاً لا جنوباً، وأن بعدها الأفريقى كان ضعيفاً ومن ثم لم تكن استجابتها بقدر التحدى الذى شكلته سياسة الإدارة البريطانية بهذا النهج التقسيمى الذى انتهجته فى الجنوب.
لم يكن مستغرباً – إذن – أن ينفجر الموقف قبيل الاستقلال. ذلك أن الحركة الجماهيرية والشعارات الانتخابية والأنشطة السياسية المكثفة فى الجنوب قد أطلقت العنان لطموحات مشروعة وغير مشروعة لدى الصفوة الجنوبية التى كانت تطمح فى تولى مناصب قيادية فى أعقاب الاستقلال، وترغب فى وضع متميز فى سلطة إقليمية. وقد فشلت النخب الحاكمة فى الشمال فى استيعاب هذه الطموحات فى مشروع وطنى يرضى تطلعات القيادات الجنوبية. عند إحلال السودانيين مكان البريطانيين فى وظائف الدولة (السودنة) بحجة ضعف تأهيل الجنوبيين، ولذا فقد بلورت النخب الجنوبية مطلبها فى المناداة (بالفيدرالية) بين الشمال والجنوب وأصرت على أنها الوسيلة الوحيدة لاستيعاب التطلعات الجنوبية، ورفض النواب الجنوبيون أن يصوتوا فى ديسمبر 1955م لصالح تصفية الحكم الثنائى وإعلان استقلال السودان فى الأول من يناير عام 1956م ما لم تقبل أحزاب الشمال منح الجنوب وضعاً فدرالياً فى السودان المستقل. وهكذا صدر قرار من البرلمان السودانى فى ديسمبر 1955م تعهد فيه الشمال بإعطاء مطلب الجنوبيين فى الحكم الفدرالى (الاعتبار الكافى)، وكان هذا القرار هو ثمن موافقة نواب الجنوب على التصويت لصالح إعلان استقلال السودان. غير أن التعامل مع ذلك القرار ظل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم مكان خلاف فى التفسير بين الشمال والجنوب، إذ تصر القوى السياسية الشمالية على أنها أوفت بعهدها وأعطت الفدرالية (الاعتبار الكافى) فى مداولات لجنة الدستور عام 1957م ورفضتها عن قناعة بأن وضع الجنوب الثقافى والاقتصادى لا يمكنه من تحمل تبعات الوضع الفدرالى، ولكن القوى الجنوبية كانت – ومازالت – ترى أن الشمال تنكر لوعوده وأن تلك كانت البداية لوعود درج الشمال على إعطائها ونقضها. وقد أسهم هذا الاتهام فى توسيع دائرة عدم الثقة بين الجانبين.
على أن مجرد مشاركة الجنوبيين فى البرلمان ووجودهم فى اللجنة القومية للدستور وطرحهم لوجهات نظرهم وإدارة الحوار مع القوى السياسية الأخرى كان تطوراً إيجابياً، وكان يبشر لو استمر بإزالة الكثير من الحساسيات، خاصة وأن مطالب الجنوب فى التنمية كانت تجد دعماً ومساندة من قوى عديدة فى الشمال، ولكن ذلك التطور فى إطار الحكم الديمقراطى لم يكتب له أن يستمر، إذ وقع أول انقلاب عسكرى فى السودان فى عام استقلاله الثالث (17/11/1958)، فانسدت أبواب الحوار الشمالى الجنوبى الذى كان دائراً وتصدت السلطة الانقلابية لأزمة الجنوب عبر ثلاثة محاور:
أولاً: التصدى بالقوة العسكرية لكل المتمردين الذين يحملون السلاح وتعقبهم فى الأحراش لبسط سيطرة الدولة بكل ما يتوفر لها من عنف.
ثانياً: سياسة (الأسلمة) وإبعاد المبشرين المسيحيين الأجانب وفرض سيطرة الدولة الكاملة على النظام التعليمى، ودعم كل مساعى نشر الإسلام فى الجنوب وتعديل العطلة الإسبوعية من الأحد للجمعة.
ثالثاً: التعريب باعتماد اللغة العربية لغة رسمية فى الجنوب، وتشجيع الجنوبيين على تعلمها واستعمالها وإعطائها الأولوية فى العمل الديوانى. وكانت رؤية النظام العسكرى أن تلك هى الوسيلة المثلى لتوحيد البلاد. أما الجنوبيون فقد كان رد فعلهم النزوح للخارج للعمل السياسى من خارج السودان، بينما تدفق الطلاب والشباب على مراكز المتمردين فى الأحراش. وهكذا نشأ أول تنظيم سياسى جنوبى فى المهجر عندما تكون تنظيم الاتحاد السودانى للمناطق المقفولة فى كنشاسا (الكونغو)، ثم تحول إلى حزب الاتحاد الأفريقى السودانى (سانو) ونقل مركز نشاطه إلى كمبالا (يوغندا) … بينما تعددت الحركات العسكرية المسلحة فى الداخل وزاد عدد أفرادها. فى هذه المرحلة – مطلع الستينيات – تبلور موقف المقاومة الجنوبية على جبهات ثلاث:
• مجموعات تحمل السلاح فى أحراش الجنوب وتشن تمرداً مسلحاً ضد السلطة، وهى جماعات متعددة تفتقر للتنظيم العسكرى الموحد.
• مجموعات سياسية تدعم التمرد، ولكنها تواصل العمل السياسى فى الخارج وتبشر بمطالبها التى تراوحت بين انفصال جنوب السودان وإنشاء دولته المستقلة وبين القبول بوضع فدرالى داخل الدولة السودانية.
• معارضة جنوبية صامتة ومتماسكة داخل السودان تتفادى الصراع المباشر مع الحكم العسكرى مثلما تتفادى أى تحالف مع القوى السياسية الشمالية.
كان هذا هو الوضع فى الجنوب عندما صعدت القوى السياسية الشمالية حملتها ضد الحكم العسكرى. وعلى الرغم من أن الشعار الذى انطلقت تحته ثورة أكتوبر 1964م، كان هو رفض القوى السياسية الشمالية لسياسة الحل العسكرى لأزمة الجنوب وما ترتب عليه من إضرار بالجنوبيين وبالجنوب، فإن قيادات الجنوبيين داخل السودان لم تشارك فى تلك الثورة ولم تتحمس لها ولم تصبح جزءاً منها إلا بعد نجاحها حينما تشكلت (جبهة الجنوب) كحزب سياسى يمثل الجنوبيين فى الداخل، بينما ظل حزب سانو يمارس نشاطه من كمبالا، وأصبحت جبهة الجنوب فى الداخل هى الحزب الجنوبى الوحيد الذى يمثل أبناء الجنوب وشاركت فى حكومة أكتوبر الانتقالية إثر سقوط النظام العسكرى بل احتل ممثلها أهم الوزارات السيادية فى تلك المرحلة وهى وزارة الداخلية حيث أصبح السيد كلمنت امبورو السياسى الجنوبى المخضرم أول وآخر جنوبى يشغل منصب وزير الداخلية فى السودان.
العودة للحوار:
ثورة أكتوبر التى تفجرت احتجاجاً على القمع العسكرى فى جنوب السودان كانت إيذانا بالعودة إلى منهج الحوار بديلاً للمواجهة العسكرية وطريقاً لحل أزمة الجنوب، فطرحت أول ما طرحت فكرة (مؤتمر المائدة المستديرة) لحل أزمة جنوب السودان وبذلت جهداً كبيراً لحمل القادة الجنوبيين فى الخارج (حزب سانو) وحملة السلاح للمشاركة فى المؤتمر والبحث عن حل لأزمة العلاقة بين الشمال والجنوب. ولا يسمح المجال بالخوض فى تفاصيل أعمال ذلك المؤتمر. ويكفى أن نقول أنه نجح فى استقطاب حزب سانو، فأرسل الحزب وفداً للمؤتمر الذى انعقد فى الخرطوم عام 1965م لكن وفد سانو جاء للمؤتمر وهو منقسم على نفسه: جزء منه بقيادة رئيسه اقرى جادين يدعو لاستفتاء فورى حول انفصال جنوب السودان وقيام دولته المستقلة، والقسم الآخر برئاسة سكرتير الحزب وليم دينق يدعو إلى (الفدرالية) وسيلة لتحقيق الحكم الذاتى للجنوب. الفريق الأول حضر افتتاح المؤتمر وألقى خطابه ثم انسحب رافضاً وبقى الجناح الآخر مفاوضاً.
أحزاب الشمال مجتمعة رفضت فكرة (الفدريشن) بحسبانه وسيلة ستقود فى نهاية المطاف للانفصال – ممثلو الأحزاب الخمسة (الأمة، الاتحادى، الشعب الديمقراطى، الشيوعى، الأخوان المسلمون، جبهة الميثاق) قدموا مذكرة مشتركة يعرضون فيها حكماً ذاتياً داخلياً بديلاً للفدريشن. جبهة الجنوب – الطرف الداخلى فى تمثيل الجنوب احتفظت برأيها الداعى للاستفتاء وواصلت التفاوض حول الفدرالية كحل مؤقت. مهما يكن من أمر، فإن المؤتمر كان فرصة لاستئناف الحوار وبلورة الأفكار رغم استمرار الحرب، ونجح إلى حد كبير فى وضع مشروع لاقتسام السلطة، ولكنه أخفق فى حسم قضيتين قعدتا به عن تحقيق النجاح المنشود إذ:
أولاً: رفض الشماليون الاعتراف بالجنوب كإقليم واحد وأصروا على التعامل مع الجنوب كثلاث مديريات، كل مديرية قائمة بذاتها.
ثانياً: رفض الشماليون أن يكون للإقليم الجنوبى الواحد أو الأقاليم الجنوبية الثلاثة الحق فى انتخاب حاكم الإقليم مصريون على أن تعينه الحكومة المركزية.
وقد استمر الخلاف حول هاتين النقطتين طوال سنوات الديمقراطية الثانية الثلاث (1966 – 1969) حتى دهم الجميع انقلاب مايو 1969.
اتفاقية أديس أبابا:
قبل أن نتحدث عن اتفاقية أديس أبابا ينبغى أن نتوقف لرصد أهم معالم الصراع الشمالى الجنوبى حسب الاستعراض الذى وصل بنا إلى مشارف تلك الاتفاقية.
أولاً: هناك تباين عرقى وثقافى ودينى بين الشمال المستعرب المسلم وبين الجنوب الأفريقى المختلف عرقياً وثقافياً ودينياً وأن الدولة الواحدة التى نشأت على هذه الرقعة لم تعمل على إذابة تلك الفوارق بل سعت لتعميق الخلافات ومنع التواصل. وأسلوب التنمية الذى تبنته الإدارة الاستعمارية وسارت على طريقة دولة الاستقلال كرس للظلم الاجتماعى وللهيمنة الثقافية.
ثانياً: إن الإدارة البريطانية احتفظت بالجنوب فى حالة من التخلف حتى بالنسبة للدول الأفريقية المجاورة مما جعل مستعمرات شرق أفريقيا ترفض ضم جنوب السودان إليها لأنه بتخلفه التنموى يشكل عبئاً عليها.
ثالثاً: أن الحركة الوطنية الشمالية لم تتح لها تلك الظروف أن تخلق صلة عملية مع الجنوب إبان فترة النضال ضد الاستعمار بل حرمتها من التواصل مع القيادات الجنوبية مما شكل صعوبة عملية فى التفاهم بعد الاستقلال أو إدراك التطلعات الحقيقية للجنوبيين – إضافة إلى أن الحركة الشمالية كانت ذات بعد عربى وكانت أنظارها مشدودة شمالاً وكان وعيها بأفريقيا وقضاياها ضعيفاً.
رابعاً: أن الاستقلال قد جاء قبل أن يعم الجنوب وعى سياسى يبلور مطالب محدودة تتولاها قوى سياسية متدربة، ولم تكن فى الجنوب قيادات سياسية توحد رؤيتها، ولذلك تنوعت مواقف الجنوبيين السياسية والعسكرية وافتقدوا المركز الفاعل، كما أنهم لم يتعاملوا مع الواقع السياسى السودانى بكل تنوعه بل حصروا كل نشاطهم فى علاقة الشمال بالجنوب ولم يخلقوا تحالفات خارج هذا الإطار ولجأوا للعنف لفرض مطالبهم.
خامساً: الحركة السياسية الشمالية والقوى التى تعاقبت على السلطة مدنية أو عسكرية تبنت ثقافة السودان الأوسط ومثلت مصالح السودان الأوسط وأصبحت تعبيراً جامداً عن رؤاه دون أن تهتم بقضية الاندماج الوطنى أو مصالح المناطق الطرفية فى الشمال والجنوب وتعاملت مع قضية الجنوب من منظور ضرورة إخضاع الأطراف لسلطة المركز لدرجة أنها تعاملت مع الفدرالية وكأنها رديف الانفصال – ولم يخلق ذلك مشكلة مع الجنوب فحسب بل مع مناطق الشمال الطرفية أيضاً. كان هذا هو الوضع عندما سقطت الديمقراطية الثانية نتيجة انقلاب عسكرى عام 1969م.
جاء انقلاب 1969م بوجه يسارى وتبنى أطروحات الحزب الشيوعى حول منح الجنوب حكماً ذاتياً، ولم ينقض أسبوعان على وقوع الانقلاب حتى أصدر إعلان العاشر من يونيو 1969م الذى أعلن سياسته نحو الجنوب القائم على أساس منحه الحكم الذاتى، وعين الوزير جوزيف قرنق القيادى الجنوبى بالحزب الشيوعى مسؤولاً عن شئون الجنوب. وقد سعى الوزير منذ تعيينه لإجراء اتصالات بغرض وقف الحرب والدخول فى حوار، ولكن الصراع بين نظام مايو والحزب الشيوعى احتدم وانتهى بمحاولة انقلابية فاشلة فى يوليو عام 1971م أدى إلى مفاصلة تامة بين النظام والحزب الشيوعى وإلى عداء متبادل بين النظام والمعسكر السوفيتى وإلى تحول فى سياسة الحكم نحو الصداقة مع المعسكر الغربى وأسندت مهام شئون الجنوب للسياسى الجنوبى المخضرم ابل الير.
أصبحت الظروف – داخلياً وخارجياً – مهيأة أكثر من أى وقت مضى لكى تقدم الحكومة على خطوة جريئة لحل مشكلة الجنوب وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: الحكومة وجدت نفسها فى عداء مع كل الحركة السياسية الشمالية، فيوم أن وقع الانقلاب تصدت كل الأحزاب التقليدية لمعارضته، بينما ظل يعتمد على اليسار والشيوعيين فى دعمه ولكن بعد أحداث يوليو فقدت هذا السند بانضمام الشيوعيين للمعارضة مما هدد النظام بعزلة تامة فى الشمال وفرض عليه أن يبحث عن تحالف مع الجنوبيين.
ثانياً: التغيير الذى حدث فى سياسات نظام مايو باعدت بينه وبين المعسكر الاشتراكى وجعلته يتجه غرباً ويصلح علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية التى كانت يهمها إنهاء الحرب الأهلية وجاهزة لدعم مجهودات الحل السلمى.
ثالثاً: الظروف فى دول الجوار الأفريقى لم تكن مستقرة، ويمكن أن تفقد الحركة الجنوبية تعاطف تلك البلدان فى أى لحظة، ولذلك لم تعد الحركة الجنوبية المتمردة مطمئنة لمستقبلها إزاء المتغيرات الإقليمية والدولية.
رابعاً: تمكن العقيد جوزيف لافو خريج الكلية الحربية السودانية، وقائد أحد الفصائل الجنوبية المتمردة من توحيد كل الحركات الجنوبية والسياسات تحت قيادته وحكم سيطرته عليها، وأصبح هناك مركز واحد لصناعة القرار وسط المعارضة الجنوبية مما يسهل مهمة الحوار معه.
كل هذه الظروف مهدت لمحادثات أديس أبابا التى وجدت دعماً مباشراً من اتحاد الكنائس الأفريقى والعالمى ومن الإمبراطور هيلاسلاسى، وتعاطفاً من دول شرق أفريقيا، ومن ثم لم يكن مستغرباً أن تسير المفاوضات بقوة اندفاع داخلية وخارجية وأن تنتهى خلال وقت قصير ولكنها تمت دون مشاورات مع القواعد سواء فى الشمال أو الجنوب، وفوجئ الكثيرون بالاتفاق بعد توقيعه، وإن كان الرئيس نميرى استطاع أن يفرضه على مؤسسات الشمال مثلما فعل جوزيف لافو مع الجنوبيين – غير أن سرعة إجازته لا تعنى بأى حال الإجماع على محتوياته أو الرضى التام به، فقد كانت هناك معارضة له فى صفوف الشماليين والجنوبيين على السواء وهى معارضة أمكن تجاوزها لأن الناس كانوا أشد حرصاً على وقف نزيف الدم وليس غريباً أن تعود الأصوات المعارضة لتبدو أكثر وضوحاً فى مرحلة لاحقة أو أن تسعى إلى تعديل المسار بعد بداية التنفيذ.
لقد حققت اتفاقية أديس أبابا للجنوب وضعا (فدرالياً) لبى الطموحات المعقولة وتجاوز أى عرض سابق قدمته القوى السياسية الشمالية منذ الاستقلال. وعلى الرغم من أن نظام مايو قد منحهم وضعا فدرالياً، إلا أنه تحسباً لحساسية الشماليين تجاه مصطلح (الفدرالية) لم يستعمل ذلك المصطلح، وآثر أن يسميه حكما ذاتياً. أهم سمات ذلك الحكم أنه وحد للمرة الأولى المديريات الجنوبية الثلاث فى (إقليم واحد) وهو مطلب أجمعت الأحزاب الشمالية على رفضه للتنوع القبلى الكبير فى الجنوب، ثم أعطتهم الاتفاقية سلطات داخلية مطلقة فى الإقليم وبرلماناً كامل السلطات يمتلك حتى سلطة سحب الثقة من الحكومة الإقليمية، وهو حق لا يمتلكه أهل الشمال، كما أعطى البرلمان حق انتخاب رئيس الوزراء وحق فرض الضرائب وحق الاعتراض على أى قانون يعرض على البرلمان القومى إذا رأى فيه انتهاكاً لحقوق أو مصالح الجنوبيين، واعترف بجيش المتمردين وقبل استيعاب ستة آلاف من جنوده فى الجيش القومى.
ورغم ذلك ظهرت وسط الجنوبيين معارضة للاتفاقية منذ توقيعها من جانب بعض القوى السياسية وبعض القوى العسكرية فى جيش الحركة – السياسيون كانوا يريدون فترة انتقالية واستفتاء يشمل حقهم فى الانفصال، بينما الاتفاقية دشنت وحدة دائمة. العسكريون كانوا يريدون انسحاب الجيش القومى من الجنوب واستلام جيش الانانيا لمهامه هناك – ثم بعد تنفيذ الاتفاق غضب المتمردون الذين لم يستوعبوا فى الجيش القومى وأحيلوا لوظائف مدنية مثلما غضب الذين استوعبوا لأنهم استوعبوا حسب مؤهلاتهم، فجاءت رتبهم أقل مما كانوا ينتظرون.
وكان لذلك كله انعكاسات عند بدء تنفيذ الاتفاقية .. أما المعارضة الشمالية فقد كانت ترى فى الاتفاقية استسلاماً وتمهيداً للانفصال، وأنها أعطت الجنوب أكثر مما يجب وأنها أنشأت نظاماً ديمقراطياً فى الجنوب لم يجد الشمال مثيلاً له وأنها تتنكر لعروبة السودان وأنها استجابة لضغوط استعمارية تستهدف التيار العروبى، وظلت تردد ذلك فى مقاعد المعارضة ولكنها عندما (صالحت النظام المايوى) عام 1977م اتيح لها أن تعبر عن رؤاها من الداخل وبدأت تضغط فى سبيل تعديل الاتفاقية.
إضافة لذلك فقد كانت فى الاتفاقية نفسها عيوب بعضها مرده للعجلة وبعضها مرده لقلة التشاور الداخلى أثناء المفاوضات، سواء بين المفاوضين وقواعدهم أو بين المفاوضين الحكوميين ومؤسسات الدولة الأخرى.
من العيوب التى صاحبت مولد الاتفاقية والمشاكل التى برزت أثناء التنفيذ يمكن أن نرصد ما يلى:
أولاً: النظام الدستورى الذى أسسته الاتفاقية كان غير متوازن – أنشأ حكماً إقليمياً فى الجنوب دون أن يوازيه نظام شبيه فى الشمال. فلم يكن الشمال باسره إقليماً موازياً للجنوب ولم يقسم الشمال. ففى أقاليم (الغرب – الشرق – الوسط ..الخ) حتى يخلق التوازن المطلوب وبالتالى أصبحت الحكومة المركزية هى فى نفس الوقت الحكومة الإقليمية للشمال!
ثانياً: ترتب على هذا أن المركز فسر الاتفاق بأن الجنوبيين لم يعد لهم حق فى تواجد نسبى فى الحكومة المركزية ماداموا قد استلموا السلطة فى إقليمهم، ولذلك كان أول مجلس وزراء يشكل بعد الاتفاقية مكونا من ستة وعشرين وزيراً مركزياً، كلهم من الشماليين وليس بينهم جنوبى واحد – وهذه أول مرة منذ الاستقلال لا يضم مجلس الوزراء جنوبيين – واكتفى رئيس الجمهورية بتعيين وزيرى دولة من الجنوب.
ثالثاً: الاتفاق أحدث خللاً دستورياً، إذ أنشأ فى الجنوب نظاماً ديمقراطياً برلمانياً، البرلمان يملك فيه سلطة انتخاب رئيس الوزراء وسلطة إقالته وإقالة أى وزير من وزرائه بينما يقوم فى المركز فى الخرطوم نظام رئاسى ورئيسه سلطاته مطلقة لا تحدها قيود وكان طبيعياً أن يقود هذا الخلل إلى توتر – بل إن الحكومة الإقليمية كانت تملك حق الاعتراض لدى رئيس الجمهورية على مناقشة أى قانون يمس شئون الجنوب فى البرلمان المركزى إذا ما رأت ذلك.
رابعاً: الاتفاق واجهته معارضة فى بعض جوانبه من جهات نافذة فى الشمال والجنوب وإن اضطرت لأن تتظاهر مؤقتاً بقبوله، ومن بين القوى التى عارضته:
• القوات المسلحة التى كانت تتحسب من دخول قوات متمردة فى خدمة الجيش وهى تفتقد ثقافة (الضبط والربط) العسكرى، الأمر الذى يهدد بإشاعة روح التمرد فى صفوف القوات المسلحة.
• قوات الانانيا التى ترى أن الاتفاق ظلمها. وقد عبرت عن ذلك بحوادث (تمرد) منذ العام الثانى للاتفاقية، نرصد منها على سبيل المثال وقوع انفجارات عام 1974م فى واو استهدفت الجنود الشماليين وتمرد الكتيبة 116 فى جوبا وتمرد حامية اكوبو (1975) تمرد بحر الغزال (1976م) والهجوم على مطار جوبا 1977م.
• معارضة بعض النافذين فى النظام والسياسيين المعارضين الذين صالحوا وأنهوا معارضتهم وشاركوا فى الحكم وكانوا يرون فى الاتفاقية استسلاماً.
• الجنوبيون المعترضون على السلطة الإقليمية الجنوبية لأسباب قبلية والسياسيون الجنوبيون الانفصاليون الذين يعتبرون الاتفاقية استسلاماً.
خامساً: الخلافات القبلية بين الجنوبيين ظاهرة قديمة، ولكن الذى وحد الصفوة الجنوبية كان عداؤهم وصراعهم مع الشمال، وعندما زال هذا العدو المشترك بعد الاتفاقية عادت الصراعات القبلية بينهم لتستعر على أشدها واتخذ مواطنو المديرية الاستوائية موقفاً موحداً ضد السلطة الإقليمية الجنوبية بحجة أنها تتشكل فى غالبها من قبيلة (الدينكا) ورفعوا شعار محاربة (هيمنة الدينكا) وساد صراع محتدم منح المركز فرصة التدخل فى الشأن الجنوبى، كما أحدث عدم استقرار فى الحكم. فالبرلمان الأول بعد الاتفاقية أمضى فترته المقررة وبحكومة واحدة بينما السنوات الخمس التالية والممتدة من 1978م إلى 1982م شهدت أربع حكومات متتالية فى الجنوب، كما شهدت حل البرلمان المنتخب وانتخاب برلمان جديد مما خلق شعوراً بعدم الارتياح.
سادساً: اكتشاف البترول فى الجنوب على يد شركة شفرون أدخل عنصراً جديداً فى المعادلة – المركز يريد السيطرة عليه باعتباره ثورة قومية، والإقليم يرى فى سيطرة المركز (نهبا لثروات الإقليم)، كما دخلت قضية المياه عبر فهم خاطئ لإبعاد مشروع قناة جونقلى الذى فهم على أنه تحويل لمياه الجنوب إلى الشمال ومصر.
سابعاً: قضية الحدود بين الشمال والجنوب حسمت فى جانب منها عبر الاتفاقية، بينما ترك جانب منها غامضاً. النص فى الاتفاقية يقول (المادة الثانية الفقرة الثالثة) (المديريات الجنوبية يقصد بها مديرية بحر الغزال والمديرية الاستوائية ومديرية أعالى النيل بحدودها القائمة فى أول يناير 1956م، وأية مناطق أخرى كانت جغرافياً أو ثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبى حسبما يقرر بموجب استفتاء.
-وبالطبع لم يتم ذلك الاستفتاء، بل إن الحكومة المركزية غيرت تبعية بعض مناطق الجنوب للشمال، مما أثار حفيظة الحكومة الإقليمية ودخلت فى صراع مع المركز لاضطرت الحكومة لتشكيل لجنة قضائية بحثت المشكلة وأوصت بإعادة تلك المناطق للجنوب.
ثامناً: التكلفة المالية لإعادة تعمير الجنوب والعمل على تنميته كانت جد عالية والدعم الخارجى محدوداً، ولم تتمكن الدولة من تلبية احتياجات الجنوب المالية ولكن الموارد القليلة التى توفرت أهدرت نتيجة لضعف القدرات لدى الجنوبيين مع حساسيتهم ورفضهم الاستعانة بالخبرات الشمالية لإنفاذ المشروعات الحيوية.
أحاطت كل هذه المحاذير بالاتفاقية، وخلقت توتراً عند التنفيذ، وقادت إلى صراع بين المركز وبعض القيادات الإقليمية وإلى تحالف بين رئيس الجمهورية وبعض تلك الفصائل الجنوبية كان لكل منهما دوافعه ومصالحه التى يريد أن يخدمها بهذا التحالف – فأهل المديرية الاستوائية بقيادة جوزيف لاقوا تحالفوا مع رئيس الجمهورية للتخلص مما أسموه (هيمنة الدينكا) على الحكم فى الجنوب، بينما سعى رئيس الجمهورية للاستفادة من هذا التحالف للتخلص من قيود الاتفاقية ولاستعادة سلطاته المطلقة كحاكم فرد يطبقها على كل السودان شماله وجنوبه. وقد أصبح المسرح معدا تماماً لذلك بعد أن اتفق رئيس الجمهورية مع قائد حركة التمرد جوزيف لاقو – وهما الشخصان اللذان وقعا على الاتفاقية بداية – اتفقا على تقويضها دون اللجوء إلى أى تعديل قانونى أو دستورى أو مشاورة أو بحث فى الأجهزة التشريعية، فأصدر رئيس الجمهورية منفرداً فى الخامس من مارس عام 1983م وهو عيد توقيع الاتفاقية قبل أحد عشر عاماً – الأمر الجمهورى رقم (1) الذى ألغى (الإقليم الجنوبى) تماماً، ورجع لنظام الأقاليم الثلاثة (بحر الغزال، أعالى النيل، الاستوائية) واستعاد مركز السلطة ومنح الأقاليم الثلاثة سلطات حكم محلى إذ جردها من الاستقلال المالى ومن الإشراف التام على الأمن وعلى الخدمة المدنية ومن حق البرلمان الإقليمى فى الاعتراض على القوانين والتشريعات المركزية، وألغى النص على أن اللغة الإنجليزية لغة أساسية فى الجنوب واسترد حق رئيس الجمهورية فى تعيين الولاة بل وتعيين نسبة من أعضاء البرلمان المحلى – وحرر بذلك شهادة الوفاة لاتفاقية أديس أبابا فى عيدها الحادى عشر.
وبعد شهرين من صدور القرار اندلعت حرب الجنوب الثانية التى ما تزال مستعرة حتى اليوم.
ولعل أهم الدروس المستفادة من الاتفاقية أن أى اتفاق لا يأخذ فى الاعتبار مجمل الأوضاع وعناصر العلاقة بين الشمال والجنوب، وتتم مناقشته على أوسع نطاق حتى يحوز على إجماع وطنى، سيواجه مقاومة يمكن أن تجهضه، كما أن مشروع السلام يقتضى بالضرورة وجود حكم ديمقراطى وسيادة حكم القانون والالتزام بالمواثيق وعدم الإقدام على تعديلها إلا وفق نصوصها وإجراءاتها، وهذا مبدأ لا يمكن أن يلتزم به نظام ديكتاتورى لا يعترف بحكم القانون. ويبقى ثالث الدروس هو أن التنوع العرقى والقبلى داخل الجنوب لابد من استيعابه فى أى اتفاق، وإلا انفجرت الخلافات الجنوبية الداخلية لتقوض الاتفاق، وأخيراً فإن أى اتفاق لابد من أن يعالج القضايا الاقتصادية ويتضمن مشروعاً تنموياً وأن يأخذ فى الاعتبار التنوع الثقافى بكل مكوناته وأن يكون الالتزام باحترام التنوع جاداً وصادقاً.
ولا نحتاج إلى أن نتوقف طويلاً عند الأحداث التى أعقبت نشوب الحرب ولا التطورات التى أعقبت إصدار قوانين سبتمبر ذات الطبيعة الدينية، وأثر ذلك على الصراع ولا المحاولات التى بذلها النظام للوصول إلى تسوية مع المتمردين، لأن النظام بأكمله قد أنهار بعد عامين من بداية الحرب. غير أنه يستوقفنا أنه خلال هذين العامين قد جرت محاولات للوصول إلى تفاهم بين المعارضة الشمالية والحركة الجنوبية المسلحة لتوحيد جبهة المعارضة لإسقاط النظام. ولكن هذه الاجتماعات اكتفت بتناول القضايا العامة دون الدخول فى التفاصيل حتى يعرف كل طرف أفكار الطرف الآخر، وحتى يتفق المجتمعون على برنامج عمل يوحدهم. وإذا كانت تلك الاتصالات قد خلقت نوعاً من الصلة، فإنها لم تتطور إلى تحالف، ولذلك عندما سقط النظام لم يكن هناك أى عمل مشترك بين المعارضة الجنوبية المسلحة والمعارضة السياسية الشمالية التى أسقطت نظام الخرطوم بل كانت خطوط الاتصال بينهما مقطوعة تماماً، وكان هذا مدخلاً لكثير من سوء التفاهم الذى أحبط كل محاولات الحكم المدنى الذى أعقب نظام مايو فى الوصول إلى سلام مع الحركة الجنوبية المسلحة رغم الصلات التى أشرنا إليها آنفاً.
والباحث فى حقائق تلك الفترة تستوقفه عدة ملاحظات:
أولها أن الاجتماعات المتعددة التى انعقدت فى لندن وفى عواصم أوروبية بين ممثلين للحركة وللمعارضة الشمالية حصرت نفسها فى إسقاط الحكومة دون أن تتطرق للنظام الذى سيعقب سقوطها ودون مناقشة الحركة حول رؤيتها السياسية، رغم أن الحركة كانت تتبنى أطروحات مثيرة للجدل، ويمكن أن تكون محل خلاف، ويبدو أن الخوف من تفجر تلك الخلافات بين المعارضة الشمالية والجنوبية هو الذى جعل الطرفين يتهيبان بحث التفاصيل.
ثانياً: أن أفكار الحركة الشعبية تمت صياغتها فى (المنافستو) الذى صدر آنذاك – والذى تجاوزته الحركة الآن، ولكنه كان سائداً يومها – وفيه تصور الحركة نفسها وأيدلوجيتها ومهامها بأنها (طليعة التحول الاشتراكى) فى السودان وتدين كل أحزاب السودان التقليدية وتتطلع لتحالف للقوى الحديثة فى الشمال، على أن تقوده هى وتجمع حولها كافة المناطق الطرفية لإسقاط (الطغمة الشمالية المنتمية لوسط السودان) – ولكنها كانت تتحادث وتحاور فى لندن ممثلى الأحزاب التقليدية (طغمة وسط السودان) كما أسمتها، وكان هذا يخلق تناقضاً واضحاً أو ولعلها لهذا السبب تفادت الحديث فى التفاصيل.
ثالثاً: كانت الحركة ترسم سيناريوهات عديدة لإسقاط النظام فى الخرطوم ولا تستثنى انقلاباً يقوم به صغار الضباط، ولكن لم يكن فى حسابها انقلاب ينفذه (الجنرالات) – وكان هذا هو بالضبط ما حدث عند الانتفاضة مما أربك حساباتها وجاء تحليلها لما حدث رافضاً له ومعتبراً أن سلطة الانتفاضة هى مجرد (مايو الثانية) فى جانبها العسكرى.
ووجدت أن القوى التقليدية أصبحت جزءاً من تركيبة الحكم الجديد، ورغم وجود بعض القوى الحديثة المتمثلة فى النقابيين والمهنيين وأحزاب اليسار، إلا أنها حكمت بأن نظام الحكم القائم فى الخرطوم يخلق سلطة معادية ولابد من محاربته.
رابعاً: كان رأى الحركة أن القوى الشمالية التى قامت بالانتفاضة لم تعترف بدور الحركة فى إسقاط النظام، بينما هى تعتقد أنها لعبت الدور الرئيسى فى إسقاط نظام مايو وذلك لأنها لو لم ترهقه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً لما سقط بهذه السهولة. ورغم ذلك فإن الذين قادوا الانتفاضة لم يتفاكروا معها حول الوضع الجديد ولم يأخذوا رأيها فى تركيبة الحكم ولم يتم أول اتصال بها إلا بعد مرور أكثر من شهر على الانتفاضة.
خامساً: الاتصال معها الذى تم متأخراً جداً أقنعها بأن الذين يتولون الأمر فى الخرطوم لا يأخذون أطروحاتها مأخذ الجد. فرئيس الوزراء يتحدث فى خطابه عن (قضية الجنوب) بينما الحركة فى كل أدبياتها ترفض الحديث عن قضية للجنوب وتعتبر أن الأزمة هى (أزمة كل السودان) ولن يحلها إلى إعادة صياغة السودان الجديد، كما أن رئيس الوزراء يتحدث عن العودة لاتفاقية أديس أبابا، بينما الحركة تعتبر اتفاقية أديس أبابا (صفقة) بين السلطويين فى الشمال والجنوب وأنها (خيانة).
كل هذه الظروف أدت إلى فشل المحاولات التى جرت لإدخال الحركة فى تركيبة الحكم الجديدة أو قبولها مبدأ الحوار لحل الأزمة. وعلى الرغم من أنها استقبلت الكثيرين من الحركة النقابية والمجموعات اليسارية، إلا أنها ظلت عند تحليلها بأن النظام القائم لا يمكن التفاهم معه ولابد من إسقاطه أو تبديله أو استمرار الحرب حتى النصر وأنه إذا كان ثمة من شروط للحوار، فهى لابد أن تبدأ بإلغاء قوانين سبتمبر المستمدة من الشريعة الإسلامية وإلغاء الاتفاقية الدفاعية مع كل من مصر وليبيا اللتين تعتبرهما اتفاقيتين لحماية النظام وعقد مؤتمر دستورى بأجندة متفق عليها لتنشئ نظام حكم جديدا – ولم تتمكن الحركة من تخفيف هذه الشروط إلا بعد محادثات الميرغنى قرنق عام 1987م حينما استبدلت إلغاء قوانين سبتمبر (بتجميدها) إبان فترة المؤتمر – وما كان الحكم القائم فى الخرطوم راغباً فى تقديم تنازلات مما جعله يتردد كثيراً حتى فى قبول اتفاقية الميرغنى قرنق، ولم يصل لقرار بشأنها إلا بعد سبعة أشهر – ويومها كان المسرح معداً لانقلاب يقطع الطريق على الحل السلمى وهو انقلاب خططت له ونفذته الجبهة القومية الإسلامية التى ظلت علاقتها مع أغلب القوى السياسية متوترة منذ الانتفاضة.
لقد نجحت اتفاقية أديس أبابا فى تحقيق السلام والاستقرار فى الجنوب لأول مرة منذ استقلال السودان، ولفترة استمرت أحد عشر عاماً إلى أن انفجرت الحرب الحالية، وشكلت اتفاقية أديس أبابا اعترافاً بالتمايز العرقى والثقافى بين الشمال والجنوب والوضع التنموى المتخلف للجنوب والالتزام بمعالجة الفوارق واحترام التنوع ومنح أبناء الجنوب الحق فى إدارة شئوونهم داخل الوطن الواحد. وبذلك حددت أبعاد المشكلة وحلولها المرضية للطرفين وثبت عند التنفيذ – ورغم المشاكل والعقبات – إمكانية استيعاب التنوع ولكن الاتفاقية سقطت يوم أن تم تقويض تلك الأسس.
ومع نشوب الحرب الجديدة حدثت متغيرات كثيرة وخلقت واقعاً جديداً يستعصى على الحل عن طريق الوصفة القديمة، لقد ظل السودان منذ استقلاله وحتى توقيع أديس أبابا يدير حوار الشمال / جنوب بجهد سودانى خالص وبأقل مساهمة من الخارج ويدور الحوار فى إطار السودان الواحد، وتنحصر الأزمة فى علاقة الشمال بالجنوب وتتركز فى منح الجنوب قدراً من الاستقلال الداخلى واحترام ثقافته وأعراقه وتقاليده وكان الجنوب هو الأفقر فى الموارد المستغلة والمعتمد بالكامل على موارد الشمال – لكن المتغيرات التى طرأت بعد نشوب حرب الجنوب الثانية غيرت هذه الصورة تماماً.
أولاً: امتد الصراع شمالاً وانتقلت مسارح العمليات العسكرية إلى مناطق فى إطار الشمال الجغرافى مثل جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق بل وشرق السودان القصى، وطرحت الحركة الشعبية نفسها متحدثاً باسم (المهمشين) من أهل المناطق الطرفية فى السودان وإدارات حربها تحت شعار بناء (السودان الجديد) الذى يسعى للقضاء على هياكل السلطة التقليدية ورفضت تماماً شعار الانفصال الذى تبنته بعض الحركات الجنوبية السابقة.
ثانياً: منذ أن طرح النظام المايوى مشروعه للأسلمة عبر قوانين سبتمبر أصبح (الدين) عنصراً فاعلاً فى الصراع، وأصبحت علاقة الدين بالدولة مشكلة أساسية لم تستطع الديمقراطية الثالثة أن تحلها، بل بلغت ذروتها على عهد الجبهة الإسلامية التى جاءت إلى الحكم بمشروعها الاسلاموى، ولم يترتب على ذلك تصعيد للصراع الدينى مع حكومة تعتبر الحرب الأهلية (جهاداً) فحسب، بل أدخل فى الصراع عناصر خارجية متعاطفة مع الحركة من اليمين المسيحى فى أمريكا وأوروبا، إضافة إلى إدخال السودان كله فى دائرة الصراع مع الحركات الأصولية، وبالتالى زادت وتيرة التدخل الخارجى فى الشأن السودانى وزادت هيمنة الخارج على مسار مفاوضات الجنوب.
ثالثاً: حدث تداخل بين صراع السلطة فى السودان والصراع الشمالى الجنوبى، فنشأ للمرة الأولى تحالف تنظيمى بين المعارضة الشمالية والحركة المسلحة الجنوبية بلغ فى حالة درجة القيادة العسكرية المشتركة لشن الحرب على نظام الخرطوم – ولكن ذلك البعد الشمالى المعارض غائب اليوم عن مفاوضات الحل.
رابعاً: نتيجة للضغوط التى تعرضت لها الحركة الشعبية من القوى الجنوبية الرافضة لفكرة السودان الجديد والمصرة على انفصال الجنوب، أن تبنت الحركة الشعبية شعار (تقرير المصير) فى نفس الوقت الذى لجأت فيه الحكومة إلى هذا الشعار لكى تحدث انقساماً فى الحركة وتجذب بعض فصائل الجنوب للتحالف معها بعد إغرائهم بهذا الشعار، وجاءت المعارضة الشمالية الساعية للتحالف مع الحركة لتقبل هذا الشعار وتتبناه إرضاء للحركة. وهكذا أصبح شعار تقرير المصير وخيار الانفصال جزءاً – للمرة الأولى فى تاريخ السودان – من أجندة حل الصراع الشمالى الجنوبى ومهدداً لوحدة السودان.
خامساً: تم استغلال البترول السودانى لدرجة حققت الاكتفاء الذاتى ووفرت فائضاً للتصدير يدر الآن ثمانين فى المائة من حصيلة السودان من النقد الأجنبى. و80% من النفط يستخرج الآن من الجنوب، وبالتالى أصبح للجنوب اليوم من الموارد ما يجعل لمشروع دولته المستقلة سندا اقتصادياً كان يفتقده من قبل مما يقوى الحركة الانفصالية فيه.
سادساً: المكاسب التى حققها الجنوب فى المفاوضات الحالية أشاعت فى السياسة السودانية مفهوماً جديداً مؤداه أن الذى يحمل سلاحه ويحارب، يمكن أن يحقق مكاسب جهوية أو إقليمية – وها هى حرب دارفور تمثل تطبيقاً عملياً لهذه القاعدة وسيكون لها تبعات أخرى فى أقاليم أخرى – مما يؤكد رأياً ظللنا نردده منذ سنوات مؤداه أننا لا نواجه أزمة العلاقة بين الشمال والجنوب، وإنما نواجه أزمة الحكم فى السودان والبحث عن هياكل جديدة للسلطة فى السودان كله تستوعب كل تنوعه ويشارك فيها كل أهله دون استثناء وأى علاج خارج هذا الإطار لن يحل المشكلة ولن تكتب له الديمومة.
سابعاً: على الرغم من هذا التغيير النوعى فى طبيعة الصراع. وعلى الرغم من أن المشروع الذى تم التفاوض حوله فى نيروبى يعيد رسم الخريطة السياسية للسودان بأكمله إلا أن المفاوضات انحصرت بين طرفين لا يمكن أن يدعيا تمثيل السودان كله. أنهما حقاً الطرفان اللذان يحملان السلاح والقادران على وقف الحرب. ولكن صناعة السلام شئ مختلف تماماً عن وقف الحرب وهو أمر لا يمكن أن يتولاه إلا كل أهل السودان مجتمعين. والتحدى الآن هو كيف نحول الاتفاق الجزئى إلى اتفاق شامل بمشاركة الجميع حتى يجئ ملبياً لكافة التطلعات.
ثامناً: التركيز فى محادثات نيروبى على علاقة الشمال رغم أن مشروع الاتفاق المطروح يسعى لإعادة ترتيب كل أوجه الحكم فى السودان، مما أدى إلى خلل هيكلى ولم يستفد المفاوضون من دروس أديس أبابا فكرروا للمرة الثانية الخطأ القاتل الذى قاد إلى إقامة هيكل فدرالى غير متوازن فيه مركز وإقليم واحد هو جنوب السودان مع إهمال بقية أقاليم السودان. وستفرض أزمة دارفور إصلاح هذا الخلل لأنه لابد من تحقيق وضع خاص لدارفور، والخطر هو أن ينصرف التفكير إلى دارفور وحدها لأنها حملت السلاح ويتجاهل الأقاليم الطرفية الأخرى وفى مقدمتها شرق السودان مما قد يهدد بانفجار جديد.
تاسعاً: فى إطار حل مشكلة العلاقة بين الشمال والجنوب ونتيجة للإصرار على التمسك بالقوانين المستمدة من الشريعة انتهى الاتفاق إلى قيام كيانين داخل السودان شبه مستقلين عن بعضهما البعض: قوانين إسلامية فى الشمال وقوانين علمانية فى الجنوب، نظامان قضائيان مختلفان، نظامان مصرفيان مختلفان، إذ تعمل مصارف الشمال وفق الصيغة الإسلامية ومصارف الجنوب بالصيغة التقليدية، ونظامان تعليميان مختلفان يدرس أحدهما مناهجه بالعربية والآخر بالإنجليزية، وجيشان مستقلان عن بعضهما البعض، وجيش ثالث مناصفة بين الكيانين، وهكذا تحولت (الفدرالية) إلى ما يشبه الكونفدرالية، ومهدت الطريق لانفصال ثم عادت لتحمل الشعب مسؤولية (جعل الوحدة أكثر جاذبية) وهى مهمة تبدو تحت هذه الظروف شبه مستحيلة.
لكل هذه الأسباب يبدو من المهم إدارة حوار وطنى رشيد يأخذ كل هذه التطورات فى الاعتبار ويخضع الاتفاق لمراجعات إيجابية لأن ذلك هو السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة السودان.
الجنكاب